مجلة الهدى مجلة إسلامية جامعة كانت تصدرها جمعية جماعة الدعوة الإسلامية المدير المسؤول: الأستاذ المفضل الفلواتي رحمه الله تعالى رقم الإيداع القانوني: 26/82 صدرت أول مرة سنة 1402ه/ 1982م
لماذا الهدى؟
لم يسبق أن تعرض العالم الإسلامي لهجمة شرسة مثل الهجمة التي يتعرض لها الآن، هجمة حاقدة على مختلف الأصعدة والمستويات، هجمة استهدفت أرضنا وخيراتنا وديننا وقيمنا الفكرية والروحية والخلقية
قد عرف تاريخنا الإسلامي هزات وانحرافات. ولكن ليس بالدرجة التي نشاهد عليها مجتمعاتنا اليوم، حقيقة إن مجتمعاتنا عرفت أنواعا من المجون والخلاعة والاستهتار بالدين، وأنواعا من الزندقة الفكرية والسلوكية والأدبية زعزعت الأمن في النفوس إلى حد أن أنشئت مصالح ومؤسسات لمكافحتها، وجند قضاة وعلماء للتحقيق في قضايا وامتحان من تحوم حوله الشبه، ولكن ذلك لم يتعد حدود بروز ظاهرة مرضية عارضة، في وسط ضيق – ينبغي محاصرتها ومعالجتها بما تستحقه من سرعة البت والحسم قبل استشراء الداء واستحالة السيطرة عليه
وما نشاهد عليه مجتمعاتنا اليوم ليس ظاهرة مرضية، ولكنه كارثة مدمرة لم يكن باستطاعة منحرف أو زنديق أو ملحد قبل هذا العصر أن يجاهر بفسوقه ويعلن كفره وإلحاده إمام الملأ، فضلا عن أن يدافع عنه ويحاول تأييده بحجج واهية أبعد ما تكون عن المنطق والعلم والحقيقة، أما الآن فليس من الغرابة في شيء مشاهدة المدخنين في رمضان في الحدائق العامة وشرفات المنازل وغيرهما، ومشاهدة السكارى المعربدين يخيفون المارة، ومشاهدة المطاردين للجنس الآخر – وأحيانا التغازل والتخاصر – في الشوارع وأبواب المدارس على مرأى ومسمع من الخاص والعام، ومشاهدة الكاسيات العاريات المتبرجات في وقاحة وبشاعة لا مزيد عليهما، ومشاهدة الكتب والمجلات والأشرطة السينمائية التي تدعو إلى الإلحاد والخلاعة بشكل سافر ومشاهدة برامج تعليمية حظ الإسلام فيها قليل، وكانت قبلا كلها للإسلام منه تنبع وفيه تصب، إلى غير ذلك من المظاهر العديدة البعيدة عن الإسلام سواء كانت على مستوى الرعاة أو الرعايا
وقد عرف العالم الإسلامي خلال تاريخه الطويل كذلك نكبات مزلزلة أحاطت به إحاطة تامة. والتفت على عنقه محاولة خنقه والإجهاز عليه ولكن تلك النكبات على قساوتها وضراوتها وعنفها لم تستطع تحويله عن الخط الإسلامي، وإفقاده روح المبادرة والسيطرة على الأحداث. كما لم تستطع أخذ الزمــام من يده، وإن كانت عطلت سيره، وبعثرت صفه، وعاقت نموه العلمي والصناعي والسياسي، وساهمت في تقليص دوره الحضاري – لأن تلك النكبات كانت نكبات في الأرض والمال والنفس والولد، ولم تكن نكبات في الدين، بل كان الدين هو الملجأ الذي يحميه من الدمار والانهيار، ويمده بقوة النهوض واستئناف السير
إلا أن الضربات الصليبية الحاقدة، والغارات الماكرة المتوالية على بلاد المسلمين، وخصوصا بعد سقوط الأندلس جعلت العالم الإسلامي ينطوي على نفسه، ويكتفي برد الهجمات المشنونة ضمن مخطط مدروس شامل يستهدف محو الاسلام و ابتلاع دياره، وبدل أن يواجه المسلمون أوروبا الناهضة بنهضة أشمل وأعمق، وبصف مرصوص، ونظم متطورة وأساليب في مستوى الرسالة التي يحملون، واجهوها بالصف المبعثر، والفكر الجامد البعيد عن روح الإسلام الذي لا يستعصي على التجديد ضمن إطار المتغيرات، وواجهوها بالتطاحن والنزاعات الإقليمية والمحلية، بل والقبلية أحيانا، وبالسير العشوائي، والفكر الاتكالي الخرافي الذي ساد اوساط العوام، فانتشر الجهل، وعم التخلف، وطغى الاستبداد والقهر، وعطل الفكر الاسلامي عن العطاء المتناسب مع تاريخه المشرق في القرون الخوالي، مما أتاح لأوروبا – التي شهدت نهضة صناعية كبيرة الفرصة كي تبدأ في الانقضاض على البلاد الإسلامية منذ أواسط القرن التاسع عشر إلى أوائل القرن العشرين تقريبا، وتم لها ما أرادت من استعمار، واحتلال، واستغلال، وتنصير وتخريب للأخلاق والعقول والنفوس والضمائر، وهدم ومحاربة للإسلام وحملته، ومسخ وتشويه لمثله ومبادئه
فكانت نتيجة هذا الكيد المتلاحق منذ مئات السنين، والمستمر إلى الآن هو ما نرى بأعيننا، غزينا – وما زلنا نغزى وإن رحل الاستعمار عسكريا في الظاهر- في بيوتنا وشوارعنا، ومدارسنا ومتاجرنا، وحتى في مساجدنا… غزينا فكرا، وسياسة، وإعلاما، واقتصادا، وأخلاقاً واعتقادا، فأصبحنا لا هوية لنا، ولا شخصية تميزنا عن غيرنا، لأننا أصبحنا صدى للأصوات التي تتردد في الشرق أو الغرب، نحكي الفكر الذي تلفظه الأدمغة الماكرة لتلهينا، وتشل حركة تفكيرنا، وتوهمنا أن دورنا في التاريخ قد انتهى يوم أن قاد الغرب القافلة الحضارية، فلم يبق لنا إلا أن نكون ظلاله، نتبعه أينما اتجه وحيثما سار، نلتقط فتات موائده في كل مجال
ولئن كانت الطعنات الاستعمارية الخبيثة أفقدتنا صواب التفكير والتخطيط، وتركتنا نلعق جراحاتنا النازفة دما، فلقد كان من فضل الله على العالم الإسلامي أن كانت من جهة أخرى سبب إيقاظه وعامل بعثه، فتعالت الصيحات المنبهة في كل صقع تنادي بالتحرر من الاستعمار والتبعية الفكرية والسياسية والاقتصادية، ومحاولة الخروج من هيمنته ودائرة نفوذه، وقامت الحركات الإسلامية في كل مكان تعمل جاهدة على إرجاع الأمة إلى أصالتها وصبغتها الاسلامية، ليتسنى لها أن تلعب في العالم دورا قياديا يكفل له السعادة الحقيقية والأمن والاطمئنان ويريحه من المشاكل المزمنة
لكن هذه اليقظة غير شاملة، اذ السواد الأعظم المسلوب الإرادة والتفكير استحلى أساليب الاستعمار وطرائقه في الحياة والسلوك، بدون أن يرى في ذلك حرجا أو تناقضا مبادئه الإسلامية، بل ربما كان من يرى مع أن ذلك داخل في نطاق تجديد الإسلام، فالتجديد عند بعض الناس هو تدجين الإسلام وإخضاعه للنظـم الاستعمارية وفلسفتها، فالشعور بالجرح الغائر، والمستوى المؤسف لا يعاني منه إلا فئات قليلة واعية متنورة، بينما باقي الأمة غارق في مشاكله، لا يملك أمر نفسه ولا يجد الوقت للتفكير في مصائب أمته
ثم إن هذه اليقظة في حاجة ماسة إلى التوعية، والترشيد، حتى تصمد أمام التيارات الهدامة وزعازع الفتنة من جهة، وحتى لا تنحرف عن الخط السليم والمنهاج الرباني القويم من جهة أخرى؛ لأن قلة وسائل الإعلام الإسلامي وانعدامها أحيانا حجبت عن الأعين الواقع المر الذي تعيش فيه الأمة الإسلامية، كما حجبت عنها الرؤيا الواضحة للكثير من القضايا والمواقف، فأصبحت الشعوب تتبنى مواقف مصنوعة من أعدائها
وفي هذا الإطار ظهرت “مجلة الهدى”
لتساهم في توضيح المنهاج الإسلامي الذي وقع الانحراف عنه منذ أمد بعيد اقتناعا بأنه المنهاج الصحيح الخالي من العيب أو النقص، والعاري من الغرض والهوى، والبعيد كل البعد عن الحرج ومصادمة الفطرة البشرية السلمية، وهو لذلك كان المنهاج الوحيد المرشح لأن تتآلف عليه القلوب شرقية كانت أم غربية، إذا وجد من يتجند -من الدعاة المخلصين- لإسماع صوته الناس بصدق وأمانة، سواء كان الداعون أفرادا أو جماعات، دولا أو هيئات؛ لأن هذا المنهاج هو هدى الله وهدى الله هو الهدى
لتساهم في دفع اليقظة الإسلامية الحالية إلى أقصى مداها بعون الله وتوفيقه فإن ما يعانيه المسلمون اليوم من أزمات جاء من الجهل بقيمة الإسلام وقدرته على حل المشاكل، وتوفير الكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية اللذين هما أمل كل إنسان، وشعار كل حركة
ولتساهم مع زميلاتها من الصحف والمجلات الإسلامية في نشر الوعي بقضايانا والتبصير بواقعنا والعمل على ضبط السير الجاد واتزانه؛ لأن الصحوة الإسلامية الحالية يعمل على هدمها وتتفيهها وتمييعها عدد كبير من المتربصين بالإسلام والمسلمين بمختلف الأشكال والألوان والوجوه، وبمختلف الوسائل والأساليب، وأقبح سلاح يشهر في وجه المسلمين اليوم هو سلاح التخويف من تطبيق الإسلام، وتشكيك المسلمين حكاما ومحكومين في قدرته على إخراجهم من تخلفهم، وفي صلاحيته للحياة في زمن البرق والهاتف واللاسلكي، والذرة، وما إلى ذلك من المخترعات التي فتنت المغرورين، فهم يصورون من يفكر في هذا أو له في منتهى السخافة والحمق، بل ويطلقون عليه الكثير من الألقاب والأوصاف المنفرة، ويلصقون به الكثير من الاتهامات الباطلة
إن عقبة الخوف من الإسلام عقبة كأداء نرجو ان تتظافر جهود المسلمين لاجتيازها والتغلب عليها، لتعثر الأمة الاسلامية على هويتها
لتساهم مع زميلاتها في تعديد المنابر تسمع منها الأصوات الإسلامية وتعمل على رفع الحجر عن المستقلين في رأيهم عن الآخرين، فكثير في الطوائف – بأمتنا – التي انقادت للآخرين بالتبع، أو لاذت بالصمت عندما حوصرت أفكارها ولم تجد منبرا تسمع منه صوتها للناس
لتساهم في تقريب شقة الخلاف بين المسلمين، وتوثيق عرى المحبة والإخاء والتعاون بينهم، امتثالاً لقول الله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ﴾ فإن الاعتصام بحبل الله المتين هو الحصن الحصين الذي ينبغي أن يتحصن به المسلمون على اختلاف رؤاهم ومشاربهم وطرائقهم في نشر هذا الدين والدعوة إليه، فالمعبود واحد هو الله عز وجل، والداعون إليه هم أدلاء الطريق، ومحبتهم لا ينبغي أن تفتلنا إلى درجة التعصب لهم بالحق وبالباطل، أو تنسينا محبة جميع المسلمين وستر عوراتهم، إذ كل المسلم على المسلم حرام: دمه وعرضه وماله، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالاختلاف في الفروع فيه سعة ورحمة، فلا ينبغي أن ينقلب بضيق أفقنا الى نقمة، والاجتهاد والتجديد في أسلوب الدعوة ووسائلها فيه تكامل، فلا ينبغي أن ينقلب إلى تفاخر وغرور وإعجاب بالرأي، فبحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، فأعظم بلاء يهدد المسلمين بالخطر هو التفرقة والتحزب داخل الصف الإسلامي وتبديد الجهد فيما لا طائل تحته، ولا غناء فيه من التخاصم والتنافر.
إن “مجلة الهدى”، هي مجلة كل مسلم يريد أن يقول الحق خالصا لوجه الله تعالى ويدعو إلى الخير غيرة على دين الله وعلى ما آل إليه أمر هذه الأمة الإسلامية، هدفه رتق الفتق، ورأب الصدع، ووصف الدواء – من وجهة النظر الإسلامية- لمختلف الأدواء التي تفتك بنا، وغايته نيل رضى الله يوم يلقاه، إذ ذلك هو أمل كل صالح مصلح، ومبتغى كل مسلم يعرف مهمته في هذه الحياة.
لتستجيب لقول الله تعالي: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾. فهي مجلة الدعوة إلى الله بالحسنى، لا تجامل ولا تداهن، ولكنها لا تتحامل ولا تجافي، تعرض الحق – إن شاء الله – صريحا واضحا ولكن بتواضع وأدب وخلص جناح، انطلاقا من أن الأمر كله بيد الله تعالى، فهو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وهو على كل شيء قدير، فلم يكلفنا الله عز وجل بالهداية، ولكنه كلفنا بالدعوة، والسعيد من المؤمنين من وفقه الله إلى حسن عرض صبغة الله ودين الله، فهدى الله به خلقا كثيرا، فإن لم يهتد أحد، فقد أحسن إقامة حجة الله على التائهين واعتبر عند الله من الشاهدين، ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾. [البقرة]